:: حصوة في عين الرئيس ::
لا شفيت عين الرئيس - قصة قصيرة
لم تكن بداية ذلك اليوم تنبيء بحدوث أي شيء غير طبيعي في مقر اقامة رئيس هذه الدولة من دول العالم الثالث , حيث التخلف بجميع ألوانه مقترنا بالديكتاتورية والشمولية والفساد
كان صباحا عاديا لأحد أيام الربيع الجميلة حيث استطاعت بعض نسمات الهواء أن تجتاز السياج الأمني الرهيب المحيط بالقصر الرئاسي . استيقظ الرئيس مبكرا كعادته وتناول افطاره الخاص ثم نزل ليمارس رياضته اليومية المعتادة في حديقة القصر , قام الرئيس بالجري قليلا في الحديقة يرافقه سكرتيره الشخصي الذي يلازمه كظله لدرجة أنه تعلم رياضة التنس خصيصا - وهي رياضة الرئيس المفضلة - حتى يشارك الرئيس لعب التنس في الملعب الموجود بالقصر . بعد أن جرى الرئيس قليلا وأثناء توجهه بصحبة سكرتيره الى ملعب التنس , اذا بالرئيس يتوقف فجأة وهو يصيح ثم أخذ يفرك عينه اليمنى بشدة , وفهم السكرتير أن عين الرئيس قد دخل فيها شيء ما ( حصوة أو ما شابه ) وأراد المساعدة ولكنه لم يدر ماذا يفعل , هل سيفرك للرئيس عينه ؟! توقف الرئيس عن فرك عينه ولكنه مازال متوجعا حيث أن ذلك الشيء مازال داخل عينه , ولاحظ السكرتير أن عين الرئيس أصبحت محمرة بشدة
عرض السكرتير على الرئيس فكرة أن يرتاح قليلا بالحديقة , لكن الرئيس - الذي كانت عينه لاتزال تؤلمه - قرر أن يصعد جناحه الخاص , وأمر السكرتير أن يستدعي طبيب القصر في الحال
عندما دخل الطبيب على الرئيس في جناحه الخاص كان الأخير يذرع الحجرة ذهابا وايابا ويبدو على وجهه القلق والعبوس , ولاحظ الطبيب أن عين الرئيس اليمنى شديدة الاحمرار لدرجة غطت على آثار التجاعيد التي تركها الزمن على جفون الرئيس ولم تعد تفلح معها محاولات أمهر جراحي التجميل في العالم . قدم الطبيب التحية للرئيس الذي لم يبادله اياها , وعلى الفور غسل الطبيب عين الرئيس بمحلول خاص عدة مرات وطلب منه أن يستريح قليلا وأن يغمض عينه لمدة ربع ساعة , وسيصبح بعدها كل شيء على مايرام . فعل الرئيس كما أوصى الطبيب , وأمر كل من حوله بالانصراف بما فيهم زوجته وسكرتيره الشخصي , وبقى وحيدا مستلقيا على فراشه الوثير مغمضا عينيه .. كانت فرصة سانحة للذكريات والأفكار لتنقض على ذهن الرئيس بلا هوادة , فقلما يكون وحيدا ومستسلما هكذا
بداية استنكر الرئيس الموقف بكبرياء لكنه سرعان ما تعجب من ذلك الشيء الصغير التافه الذي دخل في عينه وأرقه هكذا وهو الرئيس الذي يتمنى الجميع نظرة رضا من عينه هذه , كيف استطاعت تلك الحصوة الصغيرة أن تعكر صفو الرجل الكبير ولو قليلا .. انها تصاريف القدر , ولكن هل يؤمن الرئيس بالقدر أصلا .. لقد نسيه تماما منذ أن تربع على عرش البلاد كرئيس بدرجة ملك منذ ما يزيد على ربع قرن , ومنذ ذلك الحين وهو الآمر الناهي الذي يتلاعب بمقدرات شعبه البائس . لا يدري الرئيس لماذا تذكر الآن طفولته المتواضعة في قريته التي تقع في شمال البلاد , تذكر كيف كان يترك والده وهو ذاهب ليصلي في الجامع الكبير بقريتهم ويذهب هو ليصلي بصحبة أقرانه في زاوية صغيرة على أطراف القرية , وكيف نهره والده بشدة لذلك . من يومها تعلم جيدا ألا يغرد خارج السرب .. التزم بالصلاة مع والده في الجامع الكبير , ذلك الجامع الكبير الذي لا تكاد تخلو منه أية قرية أو مدينة صغيرة أصبح بالنسبة له وهو صغير بمثابة المكان الوحيد الصالح للصلاة في قريتهم , وصلاته في أي مسجد آخر تعتبر خروجا عن الصف , هل ساهم ذلك منذ صغر الرئيس في قتل فكرة التعددية لديه بكافة أشكالها .. ربما . منذ ذلك الحين هجر أقرانه في الزاوية الصغيرة , وتدريجيا أصبح تقريبا بلا أصدقاء حتى انتقاله الى عاصمة البلاد لاكمال تعليمه
لو علم أفراد الشعب بهذا الألم المؤرق في عين الرئيس وأنه سوف يدفعه الى التفكر في أحوالهم وأحوال البلاد لدعوا جميعا : " لا شفيت عين الرئيس " , ولكن هل يذكر الرئيس الناس أصلا , لقد اقتصرت علاقته بالناس منذ فترة طويلة على أصناف محدودة .. أتباعه ووزرائه وحراسه ومنافقيه وغيرهم من رجال المال والأعمال , انها حالة الزواج الكاثوليكي بين السلطة والمال لتبادل المصالح والمنافع الخاصة فقط . تساءل الرئيس هل هو فعلا حاكم مستبد كما كتب رئيس تحرير احدى الصحف الخاصة قبل أن يقبع في السجن بتهمة اهانة رئيس الجمهورية ورمز الدولة , ماذا يعني الاستبداد أصلا .. وما علاقة استبداده بالناس بالحيرة التي تستبد به الآن .. تلك الحيرة التي تشبه حيرتك عندما يعطيك أحدهم مربعا ويطلب منك أن تضعه بالطول
سكنت أفكار الرئيس فجأة كأنما ومض ضوء في ذهنه أنار له الطريق الى الحل .. لو كان قد ظلم شعبه فعلا فلن يفيدهم اعتذاره بشيء , بل من الأجدى لهم أن يبادر باصلاح ما أفسده طوال سنوات حكمه المديدة . ارتسمت على وجه الرئيس ابتسامة رضا ويبدو أنه ارتاح لما توصل اليه من حل
فتح الرئيس عينيه - وكانت قد مرت الربع ساعة التي أوصى بها الطبيب - وشعر أن عينه قد عادت الى طبيعتها , فنهض من فراشه في ارتياح وقرع الجرس الموجود بجوار الفراش .. هرع اليه سكرتيره - الذي كان ينتظر خلف الباب على ما يبدو - ثم جاءت زوجته بصحبة الطبيب , واطمأن الجميع على سلامة عين الرئيس
أمر الرئيس بصرف مكافأة سخية للطبيب , ثم نزل مع سكرتيره الى حديقة القصر واتجها الى ملعب التنس ليستأنفا ما كانا قد تعطلا عنه و .... نسى الرئيس - أو تناسي - كل ما كان يفكر فيه
# تمت #
---------------------------------------------